و صار جذيمة فلما قرب من ديار الزباء نزل و أرسل إليها يعلمها بمجيئه فرحبت و قربت و أظهرت السرور به و الرغبة فيه و أمرت أن يحمل إليه الأنزال ( قرى الضيف) و العلوفات و قالت لجندها و خاصة لأهل مملكتها و عامة أهل دولتها و رعيتها: تلقوا سيدكم و ملك دولتكم. و عاد الرسول إليه بالجواب بما رأى و سمع فلما أراد جذيمة أن يسير دعا قصير فقال:
أنت على رأيك ؟قال:
نعم قد زادت بصيرتي فيه ، أفأنت على عزمك؟ قال:
نعم، و قد زادت رغبتي فيه.
فقال قصير:
ليس للأمور بصاحب من لم ينظر في العواقب ، فقد يستدرك الأمر قبل فواته
و في يد الملك بغية هو بها مسلط على استدراك الصواب
فإن وثقت بأنك ذو ملك وعشيرة و مكان فإنك قد نزعت يدك من سلطانك
و فارقت عشيرتك ومكانك و ألقيتها في يدي من لست آمن عليك مكره و غدره
فإن كنت و لابد فاعلا و لهواك تابعا فإن القوم إن تلقوك غدا فرقاً
و ساروا أمامك و جاء قوم و ذهب قوم فالأمر بعده في يدك و الرأي فيه إليك
و إن تلقوك رزدقا واحدا و أقاموا لك صفين حتى إذا توسطتهم انقضوا عليك من كل جانب
فحدقوا بك فقد ملكوك و صرت في قبضتهم و هذه العصا لا يشق غبارها. و كانت لجذيمة فرس تسبق الطير و تجاري الرياح يقال لها: العصا،
فإذا كان كذلك فتملك ظهرها فهي ناجية بك إن ملكت ناصيتها. فسمع جذيمة كلامه ولم يرد جوابا و سار، وكانت الزباء لما رجع رسول جذيمة من عندها قالت لجندها:
إذا أقبل جذيمة غدا فلتقوه بجمعكم و قوموا له صفين عن يمينه و شماله
و إذا توسط جمعكم فتعرضوا عليه من كل جانب حتى تحدقوا به وإياكم أن يفتكم .
و سار جذيمة و قصير عن يمينه فلما لقيه القوم رزدقا واحد أقاموا له صفين فلما توسطهم انقضوا عليه من كل جانب انقضاض الأحدل على فريسته فحدقوا به و علم أنهم قد ملكوه . و كان قصير يسايره فأقبل عليه و قال:
صدقت يا قصير. فقال قصير:
أيها الملك أبطأت بالجواب حتى فات الصواب ، فأرسله مثلا.فقال:
كيف الرأي الآن؟قال:
هذه العصا فدونكها لعلك تنجو بها .
فأنف جذيمه من ذلك و سارت به الجيوش. فلما رأى قصير أن جذيمة قد استسلم للأسر و أيقن بالقتل جمع نفسه فسار على ظهر العصا و أعطاها عنانها و زجرها فذهبت تهوي به هوي الريح فنظر إليه جذيمة و هي تطاول به و أشرفت الزباء من قصرها فقالت:
ما أحسنك من عروس تجلى عليه وتزف إلي. حتى دخلوا به على الزباء و لم يكن معها في قصرها إلا جوار أبكار أتراب . و كانت جالسة على سريرها و حولها ألف وصيفة كل واحدة لا تشبه صاحبتها في خلق و لا زي و هي بينهم كأنها القمر قد حفت به النجوم تزهو فأمرت بالأنطاع فبسطت و قالت لوصائفها:
خذوا بيد سيدكن و بعل مولاتكن. فأخذن بيده فأجلسنه على الأنطاع بحيث يراها و تراه و تسمع كلامه ويسمع كلامها ، ثم أمرت الجواري فقطعن رواهشه و وضعت الطشت تحت يده فجعلت تخشب في الطشت فقطرت قطرة على النطع فقالت لجواريها:
لا تضيعوا دم الملك. فقال جذيمة:
لا يحزنك دم أراقه أهله.فلما مات قالت:
و الله ما وفى دمك و لا شفى قتلك و لكنه غيض من فيض . ثم أمرت به فدفن . و كان جذيمة قد استخلف على مملكته ابن أخته عمرو بن عدي و كان يخرج كل يوم إلى ظهر الحيرة يطلب الخبر ويقتفي الأثر على خاله فخرج ذات يوم فنظر إلى فارس قد أقبل يهوي به فرسه هوي الريح ، فقال:
أما الفرس ففرس جذيمة و أما الراكب فكالهيمة لأمر ما جاءت العصا.
فأشرف عليهم قصير فقالوا: ما وراءك؟
قال:
سعى المقدر بالملك إلى حتفه على الرغم من أنفي و أنفه
فاطلب بثأرك من الزباء. فقال عمرو:
و أي ثأر يطلب من الزباء و هي أمنع من عقاب الجو .
فقال قصير:
قد علمت نصحي كان لخالك و كان الأجل رائده و الله لا أني ( لا أتوانى )
عن الطلب بدمه ما لاح نجم و طلعت شمس أو أدرك به ثأراً
أو تخترم نفسي ( يأتيني الأجل ) فأعذر.ثم إنه عمد إلى أنفه فجدعه ثم لحق بالزباء على صورة كأنه هارب من عمرو بن عدي فقيل لها: هذا قصير بن سعد عم جذيمة و خازنه و صاحب أمره قد جاءك. فأذنت له فقالت:
مالذي جاء بك إلينا يا قصير و بيننا و بينك دم عظيم الخطر ؟ فقال:
يا ابنة الملوك العظام لقد أتيت بما يؤتى مثلك في مثله
و لقد كان دم الملك يطلبه حتى أدركه و قد جئتك مستجيرا بك
من عمرو بن عدي فإنه اتهمني بخاله و بمشورتي عليه بالمسير فجدع أنفي
و أخذ مالي و حال بيني و بين عيالي و تهددني بالقتل
و إني خشيت على نفسي فهربت منه إليك ،
أنا مستجير بك و مستند إلى كهف عزك. فقالت:
أهلاً وسهلاً ، لك حق الجوار و ذمة المستجير. و أمرت به فنزل و أجرت له الأنزال و وصلته و كسته و خدمته و زادت في إكرامه ..
يتبع ان شاء الله